الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

احكام الفقات الزوجيه وغيرها


(باب النفقات)
: ( وعلى الزوج نفقة زوجته ، ما لا غناء بها عنه ، وكسوتها ) وجملة الأمر أن المرأة إذا سلمت نفسها إلى الزوج ، على الوجه الواجب عليها ، فلها عليه جميع حاجتها ; من مأكول ، ومشروب ، وملبوس ، ومسكن . قال أصحابنا :ونفقتها معتبرة بحال الزوجين جميعا فإن كانا موسرين ، فعليه لها نفقة الموسرين ، وإن كانا معسرين ، فعليه نفقة المعسرين ، وإن كانا متوسطين ، فلها عليه نفقة المتوسطين ، وإن كان أحدهما موسرا ، والآخر معسرا ، فعليه نفقة المتوسطين ، أيهما كان الموسر .

وقال 
أبو حنيفة ومالك يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها ; لقول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . والمعروف الكفاية ، ولأنه سوى [ ص: 157 ] بين النفقة والكسوة ، والكسوة على قدر حالها ، فكذلك النفقة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } . فاعتبر كفايتها دون حال زوجها ، ولأن نفقتها واجبة لدفع حاجتها ، فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها ، دون حال من وجبت عليه ، كنفقة المماليك ، ولأنه واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر ، فكان معتبرا بها ، كمهرها وكسوتها .
وقال 
الشافعي الاعتبار بحال الزوج وحده ; لقول الله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } . ولنا ، أن فيما ذكرناه جمعا بين الدليلين ، وعملا بكلا النصين ، ورعاية لكلا الجانبين ، فيكون أولى
، ومالك . وقال القاضي : هي مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة ، والواجب رطلان من الخبز في كل يوم ، في حق الموسر والمعسر ، اعتبارا بالكفارات ، وإنما يختلفان في صفته وجودته ; لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول ، وفيما تقوم به البنية ، وإنما يختلفان في جودته ، فكذلك النفقة الواجبة . 
وقال الشافعي : نفقة المقتر مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد . والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل ، فقال سبحانه : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } . وعلى الموسر مدان ; لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في كفارة الأذى ، وعلى المتوسط مد ونصف ، نصف نفقة الموسر ، ونصف نفقة الفقير . 
ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : { خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } . فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير ، ورد الاجتهاد في ذلك إليها ، ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في المدين ، بحيث لا يزيد عنهما ولا ينقص ، ولأن الله تعالى قال : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف ، وإيجاب قدر الكفاية ، وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز ، إنفاق بالمعروف ، فيكون ذلك هو الواجب بالكتاب والسنة . 
واعتبار النفقة بالكفارة في القدر لا يصح ; لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار ، ولا هي مقدرة بالكفاية ، وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر ، ولهذا لا يجب فيها الأدم . 
 
فصل : ولا يجب فيها الحب . وقال الشافعي : الواجب فيها الحب ، اعتبارا بالإطعام في الكفارة ، حتى لو دفع إليها دقيقا أو سويقا أو خبزا ، لم يلزمها قبوله ، كما لا يلزم ذلك المسكين في الكفارة . قال بعضهم : يجيء على قول أصحابنا ، أنه لا يجوز وإن تراضيا ; لأنه بيع حنطة بجنسها متفاضلا . ولنا ، قول ابن عباس ، في قوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } . قال : الخبز والزيت . وعن ابن عمر : الخبز والسمن ، والخبز والزيت ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمونهن الخبز واللحم . ففسر إطعام الأهل [ ص: 158 ] بالخبز مع غيره من الأدم . 
ولأن الشرع ورد بالإنفاق مطلقا من غير تقييد ولا تقدير ، فوجب أن يرد إلى العرف ، كما في القبض والإحراز ، وأهل العرف إنما يتعارفون فيما بينهم في الإنفاق على أهليهم الخبز والأدم ، دون الحب ، والنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إنما كانوا ينفقون ذلك ، دون ما ذكروه ، فكان ذلك هو الواجب ، ولأنها نفقة قدرها الشرع بالكفاية ، فكان الواجب الخبز ، كنفقة العبيد ، ولأن الحب تحتاج فيه إلى طحنه وخبزه ، فمتى احتاجت إلى تكلف ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقته ، وفارق الإطعام في الكفارة ، لأنها لا تقدر بالكفاية ، ولا يجب فيها الأدم . فعلى هذا لو طلبت مكان الخبز دراهم ، أو حبا ، أو دقيقا ، أو غير ذلك ، لم يلزمه بذله ، ولو عرض عليها بدل الواجب لها ، لم يلزمها قبوله ; لأنها معاوضة ، فلا يجبر واحد منهما على قبوله ، كالبيع . 
وإن تراضيا على ذلك ، جاز ; لأنه طعام وجب في الذمة ، لآدمي معين ، فجازت المعاوضة عنه ، كالطعام في القرض ، ويفارق الطعام في الكفارة ; لأنه حق الله تعالى ، وليس هو لآدمي معين ، فيرضى بالعوض عنه . وإن أعطاها مكان الخبز حبا ، أو دقيقا ، جاز إذا تراضيا عليه ; لأن هذا ليس بمعاوضة حقيقة ، فإن الشارع لم يعين الواجب بأكثر من الكفاية ، فبأي شيء حصلت الكفاية ، كان ذلك هو الواجب ، وإنما صرنا إلى إيجاب الخبز عند الاختلاف ، لترجحه بكونه القوت المعتاد . 
: 
ويرجع في تقدير الواجب إلى اجتهاد الحاكم ، أو نائبه ، إن لم يتراضيا على شيء ، فيفرض للمرأة قدر كفايتها من الخبز والأدم ، فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها ، من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالهما ، وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتها ، من أدنى خبز البلد ، وللمتوسطة تحت المتوسط من أوسطه ، لكل أحد على حسب حاله ، على ما جرت به العادة في حق أمثاله وكذلك الأدم للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع الأدم ، من اللحم والأرز واللبن ، وما يطبخ به اللحم ، والدهن على اختلاف أنواعه في بلدانه ; السمن في موضع ، والزيت في آخر ، والشحم ، والشيرج في آخر . وللمعسرة تحت المعسر من الأدم أدونه ، كالباقلا ، والخل ، والبقل ، والكامخ ، وما جرت به عادة أمثالهم ، وما يحتاج إليه من الدهن ، وللمتوسطة تحت المتوسط أوسط ذلك ، من الخبز ، والأدم ، كل على حسب عادته . 
وقال الشافعي : الواجب من جنس قوت البلدة ، لا يختلف باليسار والإعسار سوى المقدار . والأدم هو الدهن خاصة ; لأنه أصلح للأبدان ، وأجود في المؤنة ; لأنه لا يحتاج إلى طبخ وكلفة ، ويعتبر الأدم بغالب عادة أهل البلد ، كالزيت بالشام ، والشيرج بالعراق ، والسمن بخراسان . ويعتبر قدر الأدم بالقوت ، فإذا قيل : إن الرطل تكفيه الأوقية من الدهن . فرض ذلك . 
وفي كل يوم جمعة رطل لحم ، فإن كان في موضع يرخص اللحم ، زادها على الرطل شيئا . وذكر القاضي في الأدم مثل هذا . وهذا مخالف لقول الله سبحانه وتعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . ومتى أنفق الموسر نفقة المعسر ، فما أنفق من سعته ، ولا رزقها بالمعروف . 
وقد فرق الله عز وجل بين الموسر والمعسر في الإنفاق ، وفي هذا جمع بين ما فرق الله [ ص: 159 ] تعالى ، وتقدير الأدم بما ذكروه تحكم لا دليل عليه ، وخلاف العادة والعرف بين الناس في إنفاقهم ، فلا يعرج على مثل هذا ، وقد قال ابن عمر : من أفضل ما تطعمون أهليكم ، الخبز واللحم . والصحيح ما ذكرناه ، من رد النفقة المطلقة في الشرع إلى العرف فيما بين الناس في نفقاتهم ، في حق الموسر والمعسر والمتوسط ، كما رددناهم في الكسوة إلى ذلك ، ولأن النفقة من مؤنة المرأة على الزوج ، فاختلف جنسها بالإيسار والإعسار ، كالكسوة . ( 6459 ) فصل : وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر ; لأنهما ليس بأحسن حالا منه . ومن نصفه حر ، إن كان موسرا ، فحكمه حكم المتوسط ; لأنه متوسط ، نصفه موسر ، ونصفه معسر . 
ويجب للمرأة ما تحتاج إليه ، من المشط ، والدهن لرأسها ، والسدر ، أو نحوه مما تغسل به رأسها ، وما يعود بنظافتها ; لأن ذلك يراد للتنظيف ، فكان عليه ، كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها . فأما الخضاب ، فإنه إن لم يطلبه الزوج منها ، لم يلزمه ; لأنه يراد للزينة ، وإن طلبه منها ، فهو عليه . وأما الطيب ، فما يراد منه لقطع السهولة ، كدواء العرق ، لزمه ; لأنه يراد للتطيب ، وما يراد منه للتلذذ والاستمتاع ، لم يلزمه ; لأن الاستمتاع حق له ، فلا يجب عليه ما يدعوه إليه . ولا يجب عليه شراء الأدوية ، ولا أجرة الطبيب ; لأنه يراد لإصلاح الجسم ، فلا يلزمه ، كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار ، وحفظ أصولها ، وكذلك أجرة الحجام والفاصد . ( 6461 ) 
فصل : وتجب عليه كسوتها ، بإجماع أهل العلم ; لما ذكرنا من النصوص ، ولأنها لا بد منها على الدوام ، فلزمته ، كالنفقة ، وهي معتبرة بكفايتها ، وليست مقدرة بالشرع ، كما قلنا في النفقة ، ووافق أصحاب الشافعي على هذا ، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم ، فيفرض لها على قدر كفايتها ، على قدر يسرهما وعسرهما ، وما جرت عادة أمثالهما به ، من الكسوة ، فيجتهد الحاكم في ذلك عند نزول الأمر ، كنحو اجتهاده في المتعة للمطلقة ، وكما قلنا في النفقة ، فيفرض للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد ، من الكتان والخز والإبريسم ، وللمعسرة تحت المعسر ، غليظ القطن والكتان ، وللمتوسطة تحت المتوسط ، من ذلك ، فأقل ما يجب من ذلك قميص ، وسراويل ، ومقنعة ، ومداس ، وجبة للشتاء ، ويزيد من عدد الثياب ما جرت العادة بلبسه ، مما لا غنى عنه ، دون ما للتجمل والزينة ، والأصل في هذا قول الله عز وجل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . 
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . والكسوة بالمعروف هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : { خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } ( 6462 ) فصل : وعليه لها ما تحتاج إليه للنوم ، من الفراش واللحاف والوسادة ، كل على حسب عادته ; فإن كانت ممن عادته النوم في الأكسية والبساط ، فعليه لها لنومها ما جرت عادتهم به ، ولجلوسها بالنهار البساط ، والزلي ، والحصير الرفيع أو الخشن ، الموسر على حسب يساره ، والمعسر على قدر إعساره ، على حسب العوائد . [ ص: 160 ] 
فصل : ويجب لها مسكن ، بدليل قوله سبحانه وتعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } . فإذا وجبت السكنى للمطلقة ، فللتي في صلب النكاح أولى ، قال الله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } . ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون ، وفي التصرف ، والاستمتاع ، وحفظ المتاع ، ويكون المسكن على قدر يسارهما وفصل : فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها ; لكونها من ذوي الأقدار ، أو مريضة ، وجب لها خادم : { وعاشرهن بالمعروف } . ومن العشرة بالمعروف ، أن يقيم لها خادما ، ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام ، فأشبه النفقة . ولا يجب لها أكثر من خادم واحد ; لأن المستحق خدمتها في نفسها ، ويحصل ذلك بواحد . وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . إلا أن مالكا قال : إن كان لا يصلح للمرأة إلا أكثر من خادم ، فعليه أن ينفق على أكثر من واحد . ونحوه قال أبو ثور : إذا احتمل الزوج ذلك ، فرض لخادمين . ولنا ، أن الخادم الواحد يكفيها لنفسها ، والزيادة تراد لحفظ ملكها ، أو للتجمل ، وليس عليه ذلك . إذا ثبت هذا ، فلا يكون الخادم إلا ممن يحل له النظر إليها ، إما امرأة ، وإما ذو رحم محرم ; لأن الخادم يلزم المخدوم في غالب أحواله ، فلا يسلم من النظر . وهل يجوز أن يكون من أهل الكتاب ؟ فيه وجهان . الصحيح منهما جوازه ; لأن استخدامهم مباح ، وقد ذكرنا فيما مضى أن الصحيح إباحة النظر لهم . والثاني ، لا يجوز ; لأن في إباحة نظرهم اختلافا ، وتعافهم النفس ، ولا يتنظفون من النجاسة ، ولا يلزم الزوج أن يملكها خادما ; لأن المقصود الخدمة ، فإذا حصلت من غير تمليك ، جاز كما أنه إذا أسكنها دارا بأجرة جاز ، ولا يلزمه تمليكها مسكنا ، فإن ملكها الخادم ، فقد زاد خيرا ، وإن أخدمها من يلازم خدمتها من غير تمليك ، جاز ، سواء كان له ، أو استأجره ، حرا كان أو عبدا . وإن كان الخادم لها ، فرضيت بخدمته لها ، ونفقته على الزوج ، جاز . 
وإن طلبت منه أجر خادمها فوافقها ، جاز . ` وإن قال : لا أعطيك أجر هذا ، ولكن أنا آتيك بخادم سواه . فله ذلك إذا أتاها بمن يصلح لها . وإن قالت : أنا أخدم نفسي ، وآخذ أجر الخادم . لم يلزم الزوج قبول ذلك ; لأن الأجر عليه ، فتعيين الخادم إليه ، ولأن في إخدامها توفيرها على حقوقه ، وترفيهها ، ورفع قدرها ، وذلك يفوت بخدمتها لنفسها . 
وإن قال الزوج : أنا أخدمك بنفسي . لم يلزمها ; لأنها تحتشمه ، وفيه غضاضة عليها ، لكون زوجها خادما . وفيه وجه آخر ، أنه يلزمها الرضى به ; لأن الكفاية تحصل به . ( 6465 ) فصل : وعلى الزوج نفقة الخادم ، ومؤنته من الكسوة والنفقة ، مثل ما لامرأة المعسر ، إلا أنه لا يجب لها المشط ، والدهن لرأسها ، والسدر ; لأن ذلك يراد للزينة والتنظيف ، ولا يراد ذلك من الخادم ، لكن إن احتاجت إلى خف لتخرج إلى شراء الحوائج ، لزمهذإعسارهما ; لقول الله تعالى : { من وجدكم } . ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام ، فجرى مجرى النفقة والكسوة
 . مسألة : قال : ( فإن منعها ما يجب لها ، أو بعضه ، وقدرت له على مال ، أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف ، كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند حين قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي . فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } )وجملته أن الزوج إذا لم يدفع إلى امرأته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة ، أو دفع إليها أقل من كفايتها ، فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه ، بإذنه وبغير إذنه ; بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : { خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } . وهذا إذن لها في الأخذ من ماله بغير إذنه ، ورد لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها ، وهو متناول لأخذ تمام الكفاية ، فإن ظاهر الحديث دل على أنه قد كان يعطيها بعض الكفاية ، ولا يتممها لها ، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها في أخذ تمام الكفاية بغير علمه ; لأنه موضع حاجة ، فإن النفقة لا غنى عنها ، ولا قوام إلا بها ، فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها ، أفضى إلى ضياعها وهلاكها ، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها في أخذ قدر نفقتها ، دفعا لحاجتها ، ولأن النفقة تتجدد بتجدد الزمان شيئا فشيئا ، فتشق المرافعة إلى الحاكم ، والمطالبة بها في كل الأوقات ; فلذلك رخص لها في أخذها بغير إذن من هي عليه . وذكر القاضي بينها وبين الدين فرقا آخر ، وهو أن نفقة الزوجة تسقط بفوات وقتها عند بعض أهل العلم ، ما لم يكن الحاكم فرضها لها ، فلو لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوطها ، والإضرار بها ، بخلاف الدين ، فإنه لا يسقط عند أحد بترك المطالبة ، فلا يؤدي ترك الأخذ إلى الإسقاط . 
- فصل : ويجب عليه دفع نفقتها إليها في صدر نهار كل يوم إذا طلعت الشمس ، لأنه أول وقت الحاجة ، فإن اتفقا على تأخيرها جاز ; لأن الحق لها ، فإذا رضيت بتأخيره جاز ، كالدين . وإن اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر ، أو أقل من ذلك أو أكثر ، أو تأخيره ، جاز ; لأن الحق لهما ، لا يخرج عنهما ، فجاز من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه ، كالدين . 
وليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه . فإن سلم إليها نفقة يوم ، ثم ماتت فيه ، لم يرجع عليها بها ; لأنه دفع إليها ما وجب عليه دفعه إليها ، وإن أبانها بعد وجوب الدفع إليها ، لم تسقط نفقتها فيه ، ولها مطالبته بها ; لأنها قد وجبت ، فلم تسقط بالطلاق ، كالدين . وإن عجل لها نفقة شهر أو عام ، ثم طلقها ، أو ماتت قبل انقضائه ، أو بانت بفسخ أو إسلام أحدهما أو ردته ، فله أن يسترجع نفقة سائر الشهر . وبه قال الشافعي ، ومحمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : لا يسترجعها ; لأنها صلة ، فإذا قبضتها ، لم يكن له الرجوع فيها ، كصدقة التطوع . 
ولنا ، أنه سلم إليها النفقة سلفا عما يجب في الثاني ، فإذا وجد ما يمنع الوجوب ، ثبت الرجوع ، كما لو أسلفها إياها فنشزت ، أو عجل الزكاة إلى الساعي فتلف ماله قبل الحول . وقولهم : إنها صلة . قلنا : بل هي عوض عن التمكين ، وقد فات التمكين . وذكر القاضي ، أن زوج الوثنية والمجوسية ، إذا دفع إليها نفقة سنتين ، ثم بانت بإسلامه ، فإن لم يكن أعلمها أنها نفقة عجلها لها ، لم يرجع عليها ; لأن الظاهر أنه تطوع بها ، وإن أعلمها ذلك ، انبنى على معجل الزكاة إذا أعلم الفقير أنها زكاة معجلة ثم تلف المال ، وفي الرجوع بها وجهان ، كذلك هاهنا . وكذلك ينبغي أن يكون في سائر الصور مثل هذا ; لأنه تبرع بدفع ما لا يلزمه من غير إعلام الآخذ بتعجيله ، فلم يرجع به ، كمعجل الزكاة . 
ولو سلم [ ص: 162 ] إليها نفقة اليوم ، فسرقت أو تلفت ، لم يلزمه عوضها ; لأنه برئ من الواجب بدفعه ، فأشبه ما لو تلفت الزكاة بعد قبض الساعي لها ، أو الدين بعد أخذ صاحبه له . ( 6468 ) فصل : وإذا دفع إليها نفقتها ، فلها أن تتصرف فيها بما أحبت ، من الصدقة والهبة والمعاوضة ، ما لم يعد ذلك عليها بضرر في بدنها ، وضعف في جسمها ; لأنه حق لها ، فلها التصرف فيه بما شاءت كالمهر ، وليس لها التصرف فيها على وجه يضر بها ; لأن فيه تفويت حقه منها ، ونقصا في استمتاعهبها . 
فصل : وعليه دفع الكسوة إليها في كل عام مرة ; لأنها العادة ، ويكون الدفع إليها في أوله ; لأنه أول وقت الوجوب . فإن بليت الكسوة في الوقت الذي يبلى فيه مثلها ، لزمه أن يدفع إليها كسوة أخرى ; لأن ذلك وقت الحاجة إليها ، وإن بليت قبل ذلك ، لكثرة دخولها وخروجها أو استعمالها ، لم يلزمه إبدالها ; لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف . وإن مضى الزمان الذي تبلى في مثله بالاستعمال المعتاد ولم تبل ، فهل يلزمه بدلها ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يلزمه بدلها ; لأنها غير محتاجة إلى الكسوة . والثاني ، يلزمه ; لأن الاعتبار بمضي الزمان دون حقيقة الحاجة ، بدليل أنها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها . 
ولو أهدي إليها كسوة ، لم تسقط كسوتها . وإن أهدي إليها طعام فأكلته ، وبقي قوتها إلى الغد ، لم يسقط قوتها فيه وإن كساها ، ثم طلقها قبل أن تبلى ، فهل له أن يسترجعها ؟ فيه وجهان : أحدهما ، له ذلك ; لأنه دفعها للزمان المستقبل ، فإذا طلقها قبل مضيه ، كان له استرجاعها ، كما لو دفع إليها نفقة مدة ، ثم طلقها قبل انقضائها . والثاني ، ليس له الاسترجاع ; لأنه دفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه ، فلم يكن له الرجوع فيها ، كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل أكلها ، بخلاف النفقة المستقبلة . ( 6470 ) 
فصل : وإذا دفع إليها كسوتها ، فأرادت بيعها ، أو التصدق بها ، وكان ذلك يضر بها ، أو يخل بتجملها بها ، أو بسترتها ، لم تملك ذلك ، كما لو أرادت الصدقة بقوتها على وجه يضر بها ، وإن لم يكن في ذلك ضرر ، احتمل الجواز ; لأنها تملكها ، فأشبهت النفقة ، واحتمل المنع ; لأن له استرجاعها لو طلقها ، في أحد الوجهين ، بخلاف النفقة . ( 6471 ) فصل : والذمية كالمسلمة في النفقة والمسكن والكسوة ، في قول عامة أهل العلم . وبه يقول مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ; لعموم النصوص والمعنى . 
مسألة : قال : ( فإذا منعها ، ولم تجد ما تأخذه ، واختارت فراقه ، فرق الحاكم بينهما ) وجملته أن الرجل إذا منع امرأته النفقة ، لعسرته ، وعدم ما ينفقه ، فالمرأة مخيرة بين الصبر عليه ، وبين فراقه . وروي نحو ذلك عن عمر ، وعلي ، وأبي هريرة . وبه قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وربيعة ، وحماد ، ومالك ، ويحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . 
وذهب عطاء ، والزهري ، وابن شبرمة ، وأبو حنيفة وصاحباه ، إلى أنها لا تملك فراقه بذلك ، ولكن يرفع يده عنها لتكتسب ; لأنه حق لها عليه ، فلا يفسخ النكاح لعجزه عنه ، كالدين . وقال العنبري : يحبس إلى أن ينفق [ ص: 163 ] ولنا ، قول الله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } . وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف ، فيتعين التسريح . 
وروى سعيد ، عن سفيان ، عن ابن أبي الزناد ، قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ، أيفرق بينهما ؟ قال : نعم . قلت : سنة ؟ قال : سنة . وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن المنذر ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد ، في رجال غابوا عن نسائهم ، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا ، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى . ولأنه إذا ثبت الفسخ بالعجز عن الوطء ، والضرر فيه ، أقل ، لأنه إنما هو فقد لذة وشهوة يقوم البدن بدونه ، فلأن يثبت بالعجز عن النفقة التي لا يقوم البدن إلا بها أولى . إذا ثبت هذا ، فإنه متى ثبت الإعسار بالنفقة على الإطلاق ، فللمرأة المطالبة بالفسخ ، من غير إنظار . وهذا أحد قولي الشافعي . 

وقال حماد بن أبي سليمان : يؤجل سنة قياسا على العنين . وقال عمر بن عبد العزيز : اضربوا له شهرا أو شهرين . وقال مالك : الشهر ونحوه . وقال الشافعي في القول الآخر : يؤجل ثلاثا ; لأنه قريب . ولنا ، ظاهر حديث عمر ، ولأنه معنى يثبت الفسخ ، ولم يرد الشرع بالإنظار فيه ، فوجب ، أن يثبت الفسخ في الحال ، كالعيب ، ولأن سبب الفسخ الإعسار ، وقد وجد ، فلا يلزم التأخير . 
@ فصل : وإن لم يجد النفقة إلا يوما بيوم ، فليس ذلك إعسارا يثبت به الفسخ ; لأن ذلك هو الواجب عليه ، وقد قدر عليه . وإن وجد في أول النهار ما يغديها ، وفي آخره ما يعشيها ، لم يكن لها الفسخ ; لأنها تصل إلى كفايتها ، وما يقوم به بدنها . وإن كان صانعا يعمل في الأسبوع ما يبيعه في يوم بقدر كفايتها في الأسبوع كله ، لم يثبت الفسخ ; لأن هذا يحصل الكفاية به في جميع زمانه . وإن تعذر عليه الكسب في بعض زمانه ، أو تعذر البيع لم يثبت الفسخ ; لأنه يمكن الاقتراض إلى زوال العارض ، وحصول الاكتساب . وإن عجز عن الاقتراض أياما يسيرة لم يثبت الفسخ ; لأن ذلك يزول عن قرب ، ولا يكاد يسلم منه كثير من الناس . 
وإن مرض مرضا يرجى زواله في أيام يسيرة ، لم يفسخ ; لما ذكرناه . وإن كان ذلك يطول ، فلها الفسخ ; لأن الضرر الغالب يلحقها ، ولا يمكنها الصبر . وكذلك إن كان لا يجد من النفقة إلا يوما دون يوم ، فلها الفسخ ; لأنها لا يمكنها الصبر على هذا ، ويكون بمثابة من لا يجد إلا بعض القوت . وإن أعسر ببعض نفقة المعسر ، ثبت لها الخيار ; لأن البدن لا يقوم بما دونها . وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر ، فلا خيار لها ; لأن تلك الزيادة تسقط بإعساره ، ويمكن الصبر عنها ، ويقوم البدن بما دونها . 
وإن أعسر بنفقة الخادم ، لم يثبت لها خيار ; لما ذكرنا ، وكذلك إن أعسر بالأدم . وإن أعسر بالكسوة ، فلها الفسخ ; لأن الكسوة لا بد منها ، ولا يمكن الصبر عنها ، ولا يقوم البدن بدونها . وإن أعسر بأجرة المسكن ، ففيه وجهان ; أحدهما : لها الخيار ; لأنه مما لا بد منه ، فهو كالنفقة والكسوة . والثاني ، لا خيار لها ; لأن البنية تقوم بدونه . وهذا الوجه هو الذي ذكره القاضي . وإن أعسر بالنفقة الماضية ، لم يكن لها الفسخ ; لأنها دين يقوم البدن بدونها ، فأشبهت سائر الديون . [ ص: 164 ] الحال الثاني ، أن يمتنع من الإنفاق مع يساره ; فإن قدرت له على مال ، أخذت منه قدر حاجتها ، ولا خيار لها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هندا بالأخذ ، ولم يجعل لها الفسخ ، وإن لم تقدر ، رافعته إلى الحاكم ، فيأمره بالإنفاق ، ويجبره عليه ، فإن أبى حبسه ، فإن صبر على الحبس ، أخذ الحاكم النفقة من ماله ، فإن لم يجد إلا عروضا أو عقارا ، باعها في ذلك . وبهذا قالمالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأبو ثور . 
وقال أبو حنيفة : النفقة في ماله من الدنانير والدراهم ، ولا يبيع عرضا إلا بتسليم ; لأن بيع مال الإنسان لا ينفذ إلا بإذنه ، أو إذن وليه ، ولا ولاية على الرشيد . ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك " . ولم يفرق ، ولأن ذلك مال له ، فتؤخذ منه النفقة ، كالدراهم والدنانير ، وللحاكم ولاية عليه إذا امتنع ، بدليل ولايته على دراهمه ودنانيره . 
وإن تعذرت النفقة في حال غيبته ، وله وكيل ، فحكم وكيله حكمه في المطالبة والأخذ من المال عند امتناعه ، وإن لم يكن له وكيل ، ولم تقدر المرأة على الأخذ ، أخذ لها الحاكم من ماله ، ويجوز بيع عقاره وعروضه في ذلك ، إذا لم تجد ما تنفق سواه . وينفق على المرأة يوما بيوم . وبهذا قالالشافعي ، ويحيى بن آدم . وقال أصحاب الرأي : يفرض لها في كل شهر . ولنا ، أن هذا تعجيل للنفقة قبل وجوبها ، فلم يجز ، كما لو عجل لها نفقة زيادة على شهر . 
@ فصل : وإن غيب ماله ، وصبر على الحبس ، ولم يقدر الحاكم له على مال يأخذه ، أو لم يقدر على أخذ النفقة من مال الغائب ، فلها الخيار في الفسخ ، في ظاهر قول الخرقي ، واختيار أبي الخطاب . واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ; لأن الفسخ في المعسر لعيب الإعسار ، ولم يوجد هاهنا ، ولأن الموسر في مظنة إمكان الأخذ من ماله ، وإذا امتنع في يوم ، فربما لا يمتنع في الغد ، بخلاف المعسر . 
ولنا ، أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم ، فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا . وهذا إجبار على الطلاق عند الامتناع من الإنفاق ، ولأن الإنفاق عليها من ماله متعذر ، فكان لها الخيار ، كحال الإعسار ، بل هذا أولى بالفسخ ، فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور ، فعلى غيره أولى ، ولأن في الصبر ضررا أمكن إزالته بالفسخ ، فوجبت إزالته ، ولأنه نوع تعذر يجوز الفسخ ، فلم يفترق الحال بين الموسر والمعسر ، كأداء ثمن المبيع ، فإنه لا فرق في جواز الفسخ بين أن يكون المشتري معسرا ، وبين أن يهرب قبل أداء الثمن ، وعيب الإعسار إنما جوز الفسخ لتعذر الإنفاق ، بدليل أنه لو اقترض ما ينفق عليها ، أو تبرع له إنسان بدفع ما ينفقه لم تملك الفسخ . وقولهم : إنه يحتمل أن ينفق فيما بعد هذا . قلنا : وكذلك المعسر يحتمل أن يغنيه الله ، وأن يقترض ، أو يعطى ما ينفقه ، فاستويا .
@ 6475 ) فصل : ومن وجبت عليه نفقة امرأته ، وكان له عليها دين ، فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها ، فإن كانت موسرة ، فله ذلك لأن من عليه حق فله أن يقضيه من أي أمواله شاء ، وهذا من ماله ، وإن كانت معسرة ، لم يكن له ذلك ; لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته ، وهذا لا يفضل عنها ، ولأن الله تعالى أمر [ ص: 165 ] بإنظار المعسر ، بقوله سبحانه : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } . فيجب إنظارها بما عليها . 
@ فصل : وكل موضع ثبت لها الفسخ لأجل النفقة ، لم يجز إلا بحكم الحاكم ; لأنه فسخ مختلف فيه ، فافتقر إلى الحاكم ، كالفسخ بالعنة ، ولا يجوز له التفريق إلا أن تطلب المرأة ذلك ; لأنه لحقها ، فلم يجز من غير طلبها ، كالفسخ للعنة . فإذا فرق الحاكم بينهما ، فهو فسخ لا رجعة له فيه . وبهذا قال الشافعي وابن المنذر . وقال مالك : هو تطليقة ، وهو أحق بها إن أيسر في عدتها ; لأنه تفريق لامتناعه من الواجب عليه لها ، فأشبه تفريقه بين المولى وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطلاق . 
ولنا ، أنها فرقة لعجزه عن الواجب لها عليه أشبهت فرقة العنة . فأما إن أجبره الحاكم على الطلاق ، فطلق أقل من ثلاث ، فله الرجعة عليها ما دامت في العدة ، فإن راجعها ، وهو معسر ، أو امتنع من الإنقاق عليها ، ولم يمكن الأخذ من ماله ، فطلبت المرأة الفسخ ، فللحاكم الفسخ ; لأن المقتضي له باق ، أشبه ما قبل الطلاق . 
@ فصل : وإن رضيت بالمقام معه مع عسرته أو ترك إنفاقه ، ثم بدا لها الفسخ ، أو تزوجت معسرا عالمة بحاله ، راضية بعسرته ، وترك إنفاقه ، أو شرط عليها أن لا ينفق عليها ، ثم عن لها الفسخ ، فلها ذلك . وبهذا قال الشافعي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد ، ليس لها الفسخ ، ويبطل خيارها في الموضعين . وهو قول مالك ; لأنها رضيت بعيبه ، ودخلت في العقد عالمة به ، فلم تملك الفسخ ، كما لو تزوجت عنينا . عالمة بعنته ، أو قالت بعد العقد : قد رضيت به عنينا . 

ولنا ، أن وجوب النفقة يتجدد في كل يوم ، فيتجدد لها الفسخ ، ولا يصح إسقاط حقها فيما لم يجب لها ، كإسقاط شفعتها قبل البيع ، ولذلك لو أسقطت ، النفقة المستقبلة لم تسقط ، ولو أسقطتها أو أسقطت المهر قبل النكاح لم يسقط ، وإذا لم يسقط وجوبها ، لم يسقط الفسخ الثابت به . وإن أعسر بالمهر ، وقلنا : لها الفسخ لإعساره به . فرضيت بالمقام ، لم يكن لها الفسخ ; لأن وجوبه لم يتجدد بخلاف النفقة ، ولو تزوجته ، عالمة بإعساره بالمهر ، راضية بذلك ، فينبغي أن لا تملك الفسخ بإعساره به ; لأنها رضيت بذلك في وقت لو أسقطته فيه سقط . ( 6478 ) فصل : إذا رضيت بالمقام مع ذلك ، لم يلزمها التمكين من الاستمتاع ; لأنه لم يسلم إليها عوضه ، فلم يلزمها تسليمه ، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع ، لم يجب تسليمه إليه ، وعليه تخلية سبيلها ، لتكتسب لها ، وتحصل ما تنفقه على نفسها ; لأن في حبسها بغير نفقة إضرارا بها . 
ولو كانت موسرة ، لم يكن له حبسها ; لأنه إنما يملك حبسها إذا كفاها المؤنة ، وأغناها عما لا بد لها منه ، ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب عليها ، فإذا انتفى الأمران ، لم يملك حبسها . 
@  فصل : ومن ترك الإنفاق الواجب لامرأته مدة ، لم يسقط بذلك ، وكانت دينا في ذمته ، سواء تركها لعذر [ ص: 166 ] أو غير عذر ، في أظهر الروايتين . وهذا قول الحسن ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وابن المنذر . والرواية الأخرى : تسقط نفقتها ، ما لم يكن الحاكم قد فرضها لها . وهذا مذهب أبي حنيفة ; لأنها نفقة تجب يوما فيوما ، فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب ، لأن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها ، فتسقط ، كنفقة الأقارب . 
ولنا ، أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد ، في رجال غابوا عن نسائهم ، يأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا ، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى . ولأنها حق يجب مع اليسار والإعسار ، فلم يسقط بمضي الزمان ، كأجرة العقار والديون . قال ابن المنذر هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ، ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها . ولأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة . وفارق نفقة الأقارب ، فإنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار ممن تجب له ، وجبت لتزجية الحال ، فإذا مضى زمنها استغنى عنها ، فأشبه ما لو استغنى عنها بيساره ، وهذه بخلاف ذلك إذا ثبت هذا ، فإنه إن ترك الإنفاق عليها مع يساره ، فعليه النفقة بكمالها ، وإن تركها لإعساره ، لم يلزمه [ إلا ] نفقة المعسر ; لأن الزائد سقط بإعساره . 

@ فصل : ويصح ضمان النفقة ، ما وجب منها وما يجب في المستقبل ، إذا قلنا : إنها تثبت في الذمة . وقال الشافعي يصح ضمان ما وجب ، وفي ضمان المستقبل وجهان ، بناء على أن النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين ؟ ومبنى الخلاف على ضمان ما لم يجب إذا كان ماله إلى الوجوب ، فعندنا يصح ، وعندهم لا يصح . وقد ذكرنا ذلك في باب الضمان . 
@ فصل : وإن أعسر بنفقة الخادم أو الأدم أو المسكن ، ثبت ذلك في ذمته . وبهذا قال الشافعي . وقال القاضي : لا يثبت ; لأنه من الزوائد ، فلم يثبت في ذمته ، كالزائد عن الواجب عليه . ولنا ، أنها نفقة تجب على سبيل العوض فتثبت في الذمة ، كالنفقة الواجبة للمرأة قوتا ، وفارق الزائد عن نفقة المعسر ، فإنه يسقط بالإعسار . 
@ فصل : وإذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب ، ثم بان أنه قد مات قبل إنفاقها ، حسب عليها ما أنفقته من ميراثها ، سواء أنفقته بنفسها ، أو بأمر الحاكم . وبهذا قال أبو العالية ومحمد بن سيرين ، والشافعي ، وابن المنذر ، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم ; لأنها أنفقت ما لا تستحق . وإن فضل لها شيء فهو لها وإن فضل عليها شيء ، وكان لها صداق أو دين على زوجها ، حسب منه ، وإن لم يكن لها شيء من ذلك ، كان الفضل دينا عليها ، والله أعلم . 
@  فصل : وإن أعسر الزوج بالصداق ، ففيه ثلاثة أوجه ; أصحها ، ليس لها الفسخ . وهو اختيار ابن حامد . والثاني ، لها الفسخ . وهو اختيار أبي بكر ; لأنه أعسر بالعوض ، فكان لها الرجوع في المعوض ، كما لو أعسر بثمن مبيعها . والثالث ، إن أعسر قبل الدخول ، فلها الفسخ كما لو أفلس المشتري والمبيع بحاله ، وإن كان بعد الدخول ، لم تملك الفسخ ; لأن المعقود عليه قد استوفي ، فأشبه ما لو أفلس المشتري بعد تلف المبيع أو بعضه . [ ص: 167 ] 

ولنا ، أنه دين ، فلم يفسخ النكاح للإعسار به ، كالنفقة الماضية ، ولأن تأخيره ليس فيه ضرر مجحف ، فأشبه نفقة الخادم والنفقة الماضية ، ولأنه لا نص فيه ، ولا يصح قياسه على الثمن في المبيع ; لأن الثمن كل مقصود البائع ، والعادة تعجيله ، والصداق فضلة ونحلة ، ليس هو المقصود في النكاح ، ولذلك لا يفسد النكاح بفساده ، ولا بترك ذكره ، والعادة تأخيره ، ولأن أكثر من يشتري بثمن حال يكون موسرا به ، وليس الأكثر أن من تزوج بمهر يكون موسرا به ، ولا يصح قياسه على النفقة ; لأن الضرورة لا تندفع إلا بها ، بخلاف الصداق ، فأشبه شيء به النفقة الماضية .وللشافعي نحو هذه الوجوه . وإذا قلنا : لها الفسخ للإعسار به . فتزوجته عالمة بعسرته ، فلا خيار لها ، وجها واحدا ; لأنها رضيت به كذلك . وكذلك إن علمت عسرته بعد العقد ، فرضيت بالمقام سقط حقها من الفسخ ، لأنها رضيت بإسقاط حقها بعد وجوبه ، فسقط كما لو رضيت بعنته . 

@فصل : ونفقة الأمة المزوجة حق لها ولسيدها ; لأن كل واحد منهما ينتفع بها ، ولكل واحد منهما طلبها إن امتنع الزوج من أدائها ، ولا يملك واحد منهما إسقاطها ; لأن في سقوطها بإسقاط أحدهما ضررا بالآخر . وإن أعسر الزوج بها ، فلها الفسخ ; لأنه عجز عن نفقتها ، فملكت الفسخ ، كالحرة ، وإن لم تفسخ ، فقال القاضي : لسيدها الفسخ ; لأن عليه ضررا في عدمها ، لما يتعلق بفواتها من فوات ملكه وتلفه ، فإن أنفق عليها سيدها محتسبا بالرجوع ، فله الرجوع بها على الزوج ، رضيت بذلك أو كرهت ; لأن الدين خالص حقه ، لا حق لها فيه ، وإنما تعلق حقها بالنفقة الحاضرة ، لوجوب صرفها إليها ، وقوام بدنها بها ، بخلاف الماضية . 

وقال أبو الخطاب ، وأصحاب الشافعي : ليس لسيدها الفسخ لعسرة زوجها بالنفقة ; لأنها حق لها ، فلم يملك سيدها الفسخ دونها ، كالفسخ للعيب ، فإن كانت معتوهة ، أنفق المولى ، وتكون النفقة دينا في ذمة الزوج ، وإن كانت عاقلة قال لها السيد : إن أردت النفقة ، فافسخي النكاح ، وإلا فلا نف
 فصل : وإن اختلف الزوجان في الإنفاق عليها ، أو في تقبيضها نفقتها ، فالقول قول المرأة ; لأنها منكرة ، والأصل معها . وإن اختلفا في التمكين الموجب للنفقة ، أو في وقته ، فقالت : كان ذلك من شهر . فقال : بل من يوم . فالقول قوله ; لأنه منكر ، والأصل معه . وإن اختلفا في يساره فادعته المرأة ليفرض لها نفقة الموسرين ، أو قالت : كنت موسرا . وأنكر ذلك ، فإن عرف له مال ، فالقول قولها ، وإلا فالقول قوله . وبهذا كله قال الشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . 

وإن اختلفا في فرض الحاكم للنفقة ، أو في وقتها ، فقال : فرضها منذ شهر . فقالت : بل منذ عام . فالقول قوله ، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي . وقال مالك : إن كان مقيما معها ، فالقول قوله ، وإن كان غائبا عنها ، فالقول قول المرأة من يوم رفعت أمرها إلى الحاكم . ولنا ، أن قوله يوافق الأصل ، فقدم ، كما لو كان مقيما معها ، وكل من قلنا : القول قوله فلخصمه عليه اليمين ; لأنها دعاوى في المال ، فأشبهت دعوى الدين ، ولأن {النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولكن اليمين على المدعى عليه . } وإن دفع الزوج إلى امرأته نفقة وكسوة ، أو بعث به إليها فقالت إنما فعلت ذلك تبرعا وهبة . وقال : بل وفاء للواجب علي . فالقول [ ص: 168 ] قوله ; لأنه أعلم بنيته ، أشبه ما لو قضى دينه واختلف هو وغريمه في نيته . 

وإن طلق امرأته ، وكانت حاملا فوضعت ، فقال : طلقتك حاملا ، فانقضت عدتك بوضع الحمل ، وانقطعت نفقتك ورجعتك . وقالت : بل بعد الوضع ، فلي النفقة ، ولك الرجعة . فالقول قولها ; لأن الأصل بقاء النفقة ، وعدم المسقط لها ، وعليها العدة ، ولا رجعة للزوج ; لإقراره بعدمها . وإن رجع فصدقها ، فله الرجعة ; لأنها مقرة له بها . ولو قال : طلقتك بعد الوضع ، فلي الرجعة ، ولك النفقة . وقالت : بل وأنا حامل . فالقول قوله ; لأن الأصل بقاء الرجعة ، ولا نفقة لها ، ولا عدة عليها ; لأنها حق لله تعالى ، فالقول قولها فيها . 

وإن عاد فصدقها ، سقطت رجعته ، ووجب لها النفقة . هذا في ظاهر الحكم ، فأما فيما بينه وبين الله تعالى ، فينبني على ما يعلمه من حقيقة الأمر دون ما قاله . 
فصل : وإن طلق الرجل امرأته ، فادعت أنها حامل ، لتكون لها النفقة أنفق عليها ثلاثة أشهر ، ثم ترى القوابل بعد ذلك ; لأن الحمل يبين بعد ثلاثة أشهر ، إلا أن تظهر براءتها من الحمل بالحيض أو بغيره فتنقطع نفقتها ، كما تنقطع إذا قال القوابل : ليست حاملا . ويرجع عليها بما أنفق ; لأنها أخذت منه ما لا تستحقه ، فرجع عليها ، كما لو ادعت عليه دينا وأخذته منه ، ثم تبين كذبها . 

وعن أحمد ، رواية أخرى : لا يرجع عليها ; لأنه أنفق عليها بحكم آثار النكاح ، فلم يرجع به ، كالنفقة في النكاح الفاسد إذا تبين فساده وإن علمت براءتها من الحمل بالحيض ، فكتمته ، فينبغي أن يرجع عليها ، قولا واحدا ; لأنها أخذت النفقة مع علمها ببراءته منها كما لو أخذتها من ماله بغير علمه . 

وإن ادعت الرجعية الحمل ، فأنفق عليها أكثر من مدة عدتها ، رجع عليها بالزيادة ، ويرجع في مدة العدة إليها ; لأنها أعلم بها فالقول قولها فيها مع يمينها . فإن قالت : قد ارتفع حيضي ، ولم أدر ما رفعه . فعدتها سنة إن كانت حرة . وإن قالت : قد انقضت بثلاثة قروء . وذكرت آخرها ، فلها النفقة إلى ذلك ، ويرجع عليها بالزائد . وإن قالت : لا أدري متى آخرها . رجعنا إلى عادتها ، فحسبنا لها بها . وإن قالت : عادتي تختلف فتطول وتقصر . انقضت العدة بالأقصر ; لأنه اليقين . وإن قالت : عادتي تختلف ، ولا أعلم . رددناها إلى غالب عادات النساء ، في كل شهر قرء ; لأنا رددنا المتحيرة إلى ذلك في أحكامها ، فكذلك هذه . 

وإن بان أنها حامل من غيره ، مثل أن تلده بعد أربع سنين ، فلا نفقة عليه لمدة حملها ; لأنه من غيره . وإن كانت رجعية ، فلها النفقة في مدة عدتها ، فإن كانت انقضت قبل حملها ، فلها النفقة إلى انقضائها ، وإن حملت في أثناء عدتها ، فلها النفقة إلى الوطء الذي حملت ، ثم لا نفقة لها حتى تضع حملها ، ثم تكون لها النفقة في تمام عدتها . وإن وطئها زوجها في العدة الرجعية ، حصلت الرجعة . وإن قلنا : لا تحصل . فالنسب لاحق به ، وعليه النفقة لمدة حملها . وإن وطئها بعد انقضاء عدتها ، أو وطئ البائن ، عالما بذلك وبتحريمه ، فهو زنى ، لا يلحقه نسب الولد ، ولا نفقة عليه من أجله .
وإن جهل بينونتها ، أو انقضاء عدة الرجعية ، أو تحريم ذلك وهو ممن يجهله ، لحقه نسبه ، وفي وجوب النفقة عليه روايتان . 
مسألة قال : ( ويجبر الرجل على نفقة والديه ، وولده ، الذكور والإناث ، إذا كانوا فقراء ، وكان له ما ينفق عليهم ) [ ص: 169 ] الأصل في وجوب نفقة الوالدين والمولودين الكتاب والسنة والإجماع ; أما الكتاب فقول الله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } . أوجب أجر رضاع الولد على أبيه ، وقال سبحانه : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . 
وقال سبحانه : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } . ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما . ومن السنة { قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } . متفق عليه . وروت عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه . } رواه أبو داود . وأما الإجماع ، فحكى ابن المنذر قال : أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ، ولا مال ، واجبة في مال الولد ، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم . 
ولأن ولد الإنسان بعضه ، وهو بعض والده ، فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله . إذا ثبت هذا ، فإن الأم تجب نفقتها ، ويجب عليها أن تنفق على ولدها إذا لم يكن له أب وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ، وحكي عن مالك ، أنه لا نفقة عليها ، ولا لها لأنها ليست عصبة لولدها . ولنا ، قوله سبحانه : { وبالوالدين إحسانا } . { وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله : من أبر ؟ قال أمك ، ثم أمك ، ثم أمك ، ثم أباك ، ثم الأقرب فالأقرب } رواه أبو داود ، ولأنها أحد الوالدين ، فأشبهت الأب ، ولأن بينهما قرابة توجب رد الشهادة ، ووجوب العتق ، فأشبهت الأب . فإن أعسر الأب ، وجبت النفقة على الأم ، ولم ترجع بها عليه إن أيسر . 
وقال أبو يوسف ومحمد : ترجع عليه . ولنا ، أن من وجب عليه الإنفاق بالقرابة ، لم يرجع به ، كالأب . 
فصل : ويجب الإنفاق على الأجداد والجدات وإن علوا ، وولد الولد وإن سفلوا ، وبذلك قال الشافعي والثوري ، وأصحاب الرأي . وقالمالك : لا تجب النفقة عليهم ولا لهم ; لأن الجد ليس بأب حقيقي . ولنا ، قوله سبحانه : { وعلى الوارث مثل ذلك } . ولأنه يدخل في مطلق اسم الولد والوالد ، بدليل أن الله تعالى قال : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } . فيدخل فيهم ولد البنين . 
وقال تعالى : ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد . وقال : { ملة أبيكم إبراهيم } . ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة ، فأشبه الولد والوالد القريبين . 
 
فصل : ويشترط لوجوب الإنفاق ثلاثة شروط : أحدها ، أن يكونوا فقراء ، لا مال لهم ، ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم ، فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يستغنون به ، فلا نفقة لهم ; لأنها تجب على سبيل المواساة ، والموسر مستغن عن المواساة . الثاني ، أن يكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم ، فاضلا عن نفقة نفسه ، إما من ماله ، وإما من كسبه . فأما [ ص: 170 ] من لا يفضل عنه شيء ، فليس عليه شيء ; لما روى جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان أحدكم فقيرا ، فليبدأ بنفسه ، فإن فضل ، فعلى عياله ، فإن كان فضل ، فعلى قرابته . } وفي لفظ : { ابدأ بنفسك ، ثم بمن تعول } . حديث صحيح . وروى أبو هريرة ، { أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، عندي دينار . قال : تصدق به على نفسك قال : عندي آخر . قال : تصدق به على ولدك . قال : عندي آخر . قال : تصدق به على زوجك . قال : عندي آخر . قال : تصدق به على خادمك . قال : عندي آخر . قال : أنت أبصر . } رواه أبو داود ، ولأنها مواساة ، فلا تجب على المحتاج ، كالزكاة . الثالث ، أن يكون المنفق وارثا ; لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } . 
ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس ، فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم ، فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة ، لم تجب عليه النفقة لذلك . وإن امتنع الميراث مع وجود القرابة ، لم يخل من ثلاثة أقسام ; أحدها ، أن يكون أحدهما رقيقا ، فلا نفقة لأحدهما على صاحبه ، بغير خلاف ; لأنه لا ولاية بينهما ولا إرث ، فأشبها الأجنبيين ، ولأن العبد لا مال له فتجب عليه النفقة وكسبه لسيده ، ونفقته على سيده فيستغني بها عن نفقة غيره . الثاني : أن يكون دينهما مختلفا ، فلا نفقة لأحدهما على صاحبه . وذكر القاضي في عمودي النسب روايتين ; إحداهما ، تجب النفقة مع اختلاف الدين . وهو مذهب الشافعي ; لأنها نفقة تجب مع اتفاق الدين ، فتجب مع اختلافه ، كنفقة الزوجة والمملوك ، ولأنه يعتق على قريبه ، فيجب عليه الإنفاق عليه ، كما لو اتفق دينهما . 
ولنا ، أنها مواساة على سبيل البر والصلة ، فلم تجب مع اختلاف الدين ، كنفقة غير عمودي النسب ، ولأنهما غير متوارثين فلم ينافها اختلاف الدين ، كالصداق والأجرة ، وكذلك تجب مع الرق فيهما أو في أحدهما ، وكذلك نفقة المماليك ، والعتق عليه يبطل بسائر ذوي الرحم المحرم ، فإنهم يعتقون مع اختلاف الدين ، ولا نفقة لهم معه ، ولأن هذه صلة ومواساة ، فلا تجب مع اختلاف الدين ، كأداء زكاته إليه ، وعقله عنه ، وإرثه منه . الثالث : أن يكون القريب محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه ، فينظر ; فإن كان الأقرب موسرا فالنفقة عليه ، ولا شيء على المحجوب به ; لأن الأقرب أولى بالميراث منه ، فيكون أولى بالإنفاق وإن كان الأقرب معسرا ، وكان من ينفق عليه من عمودي النسب ، وجبت نفقته على الموسر . ذكر القاضي ، في أب معسر وجد موسر ، أن النفقة على الجد . 
وقال ، في أم معسرة وجدة موسرة : النفقة على الجدة . وقد قال أحمد : لا يدفع الزكاة إلى ولد ابنته ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن ابني هذا سيد } . فسماه ابنه ، وهو ابن ابنته ، وإذا منع من دفع الزكاة إليهم لقرابتهم ، يجب أن تلزمه نفقتهم عند حاجتهم . وهذا مذهب الشافعي . وإن كان من غير عمودي النسب ، لم تجب النفقة عليه إذا كان محجوبا . قال القاضي ، وأبو الخطاب ، في ابن فقير وأخ موسر لا نفقة عليهما ; لأن الابن لا نفقة عليه لعسرته والأخ [ ص: 171 ] لا نفقة عليه لعدم إرثه ; ولأن قرابته ضعيفة لا تمنع شهادته له ، فإذا لم يكن وارثا لم تجب عليه النفقة كذوي الرحم . 
ويتخرج في كل وارث ، لولا الحجب ، إذا كان من يحجبه معسرا وجهان : أحدهما : لا نفقة عليه ; لأنه ليس بوارث ، أشبه الأجنبي . والثاني ، عليه النفقة لوجود القرابة المقتضية للإرث والإنفاق ، والمانع من الإرث لا يمنع من الإنفاق ; لأنه معسر لا يمكنه الإنفاق ، فوجوده بالنسبة إلى الإنفاق كعدمه . 
فصل : فأما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب ، فإن كانوا من غير عمودي النسب ، فلا نفقة عليهم . نص عليه أحمد ، فقال :الخالة والعمة لا نفقة عليهما . قال القاضي : لا نفقة لهم رواية واحدة ; وذلك لأن قرابتهم ضعيفة ، وإنما يأخذون ماله عند عدم الوارث ، فهم كسائر المسلمين ، فإن المال يصرف إليهم إذا لم يكن للميت وارث ، وذلك الذي يأخذه بيت المال ; ولذلك يقدم الرد عليهم . وقال أبو الخطاب : يخرج فيهم رواية أخرى : أن النفقة تلزمهم عند عدم العصبات وذوي الفروض ; لأنهم وارثون في تلك الحال .
قال ابن أبي موسى : هذا يتوجه على معنى قوله ، والأول هو المنصوص عنه . فأما عمود النسب ، فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الإنفاق عليهم ، سواء كانوا من ذوي الأرحام ، كأبي الأم وابن البنت ، أو من غيرهم ، وسواء كانوا محجوبين أو وارثين . وهذا مذهب الشافعي ; وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضية ، وتقتضي رد الشهادة ، وتمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد وإن سفل ، فأوجبت النفقة على كل حال ، كقرابة الأب الأدنى . 
فصل : ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين والمولودين نقص الخلقة ، ولا نقص الأحكام ، في ظاهر المذهب ، وظاهر كلام الخرقي ; فإنه أوجب نفقتهم مطلقا إذا كانوا فقراء وله ما ينفق عليهم . وقال القاضي : لا يشترط في الوالدين . وهل يشترط ذلك في الولد ؟ فكلام أحمد يقتضي روايتين ; إحداهما ، تلزمه نفقته ; لأنه فقير . والثانية : إن كان يكتسب فينفق على نفسه ، لم تلزم نفقته . وهذا القول يرجع إلى أن الذي لا يقدر على كسب ما يقوم به تلزم نفقته ، رواية ، واحدة ، سواء كان ناقص الأحكام ، كالصغير والمجنون ، أو ناقص الخلقة كالزمن ، وإنما الروايتان في من لا حرفة له ممن يقدر على الكسب ببدنه . 
وقال الشافعي : يشترط نقصانه ، إما ، من طريق الحكم أو من طريق الخلقة . وقال أبو حنيفة : ينفق على الغلام حتى يبلغ ، فإذا بلغ صحيحا ، انقطعت نفقته ، ولا تسقط نفقة الجارية حتى تتزوج . ونحوه قال مالك ، إلا أنه قال : ينفق على النساء حتى يتزوجن ، ويدخل بهن الأزواج ، ثم لا نفقة لهن ، وإن طلقن ، ولو طلقن قبل البناء بهن ، فهن على نفقتهن . ولنا ، { قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . } لم يستثن منهم بالغا ولا صحيحا ، ولأنه والد أو ولد فقير ، فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني ، كما لو كان زمنا أو مكفوفا ، فأما الوالد ، فإن أبا حنيفة وافقنا على وجوب نفقته صحيحا إذا لم يكن ذا كسب ، وللشافعي في ذلك قولان . ولنا أنه والد محتاج ، فأشبه الزمن . 
فصل : ومن كان له أب من أهل الإنفاق ، لم تجب نفقته على سواه ; لأن الله تعالى قال : { فإن [ ص: 172 ] أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } . وقال : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } . { وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . } فجعل النفقة على أبيهم دونها . ولا خلاف في هذا نعلمه ، إلا أن لأصحاب الشافعي ، فيما إذا اجتمع للفقير أب وابن موسران ، وجهين : أحدهما ، أن النفقة على الأب وحده . والثاني ، عليهما جميعا ; لتساويهما في القرب . ولنا ، أن النفقة على الأب منصوص عليها ، فيجب اتباع النص ، وترك ما عداه . 
@ فصل : ويلزم الرجل إعفاف أبيه ، إذا احتاج إلى النكاح . وهذا ظاهر مذهب الشافعي . ولهم في إعفاف الأب الصحيح وجه آخر ، أنه لا يجب . وقال أبو حنيفة : لا يلزم الرجل إعفاف أبيه ، سواء وجبت نفقته أو لم تجب ; لأن ذلك من أعظم الملاذ ، فلم تجب للأب ، كالحلواء ، ولأنه أحد الأبوين ، فلم يجب له ذلك كالأم . ولنا ، أن ذلك مما تدعو حاجته إليه ، ويستضر بفقده ، فلزم ابنه له ، كالنفقة ، ولا يشبه الحلواء ; لأنه لا يستضر بفقدها ، وإنما يشبه الطعام والأدم ، وأما الأم فإن إعفافها إنما هو تزويجها إذا طلبت ذلك ، وخطبها كفؤها ، ونحن نقول بوجوب ذلك عليه ، وهم يوافقوننا في ذلك إذا ثبت هذا ، فإنه يجب إعفاف من لزمت نفقته من الآباء والأجداد ، فإن اجتمع جدان ، ولم يمكن إلا إعفاف أحدهما ، قدم الأقرب ، إلا أن يكون أحدهما من جهة الأب والآخر من جهة الأم ، فيقدم الذي من جهة الأب ، وإن بعد ; لأنه عصبة والشرع قد اعتبر جهته في التوريث والتعصيب ، فكذلك في الإنفاق والاستحقاق . ( 6494 ) 
فصل : وإذا وجب عليه إعفاف أبيه ، فهو مخير ، إن شاء زوجه حرة ، وإن شاء ملكه أمة ، أو دفع إليه ما يتزوج به حرة أو يشتري به أمة ، وليس للأب التخيير عليه ، إلا أن الأب إذا عين امرأة ، وعين الابن أخرى ، وصداقهما واحد ، قدم تعيين الأب ; لأن النكاح له ، والمؤنة واحدة ، فقدم قوله كما لو عينت البنت كفؤا ، وعين الأب كفؤا ، قدم تعيينها . وإن اختلفا في الصداق لم يلزم الابن الأكثر ; لأنه إنما يلزم أقل ما تحصل به الكفاية ، ولكن ليس له أن يزوجه أو يملكه قبيحة أو كبيرة لا استمتاع فيها ، وليس له أن يزوجه أمة ; لأن فيه ضررا عليه ، وهو إرقاق ولده ، والنقص في استمتاعه . 
وإن رضي الأب بذلك لم يجز ، لأن الضرر يلحق بغيره ، وهو الولد ، ولذلك لم يكن للموسر أن يتزوج أمة . وإذا زوجه زوجة أو ملكه أمة ، فعليه نفقته ونفقتها . ومتى أيسر الأب ، لم يكن للولد استرجاع ما دفعه إليه ، ولا عوض ما زوجه به ; لأنه دفعه إليه في حال وجوبه عليه ، فلم يملك استرجاعه ، كالزكاة . وإن زوجه أو ملكه أمة فطلق الزوجة أو أعتق الأمة ، لم يكن عليه أن يزوجه أو يملكه ثانيا ; لأنه فوت ذلك على نفسه . وإن ماتتا ، فعليه إعفافه ثانيا لأنه لا صنع له في ذلك . 
] فصل : قال أصحابنا : وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه ، نفقته ، وكان محتاجا إلى إعفافه . وهو قول بعض أصحاب الشافعي .وقال بعضهم : لا يجب ذلك عليه . ولنا ، أنه من عمودي نسبه ، وتلزمه نفقته ، فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه ، كأبيه . قال القاضي : وكذلك يجيء في كل من لزمته نفقته ; من أخ ، أو عم ، أو غيرهم ; لأن أحمد قد نص في العبد : يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك ، وإلا بيع عليه . وكل من لزمه إعفافه لزمته نفقة زوجته ; لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بذلك . وقد روي عن أحمد ، أنه لا يلزم الأب نفقة زوجة الابن . وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها . 
 مسألة قال : ( وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب ، أجبر وارثه على نفقته ، على قدر ميراثهم منه ) ظاهر المذهب أن النفقة تجب على كل وارث لموروثه ، إذا اجتمعت الشروط التي تقدم ذكرنا لها . وبه قال الحسن ، ومجاهد ، والنخعي ، وقتادة ، والحسن بن صالح ، وابن أبي ليلى ، وأبو ثور . وحكى ابن المنذر ، عن أحمد ، في الصبي المرضع لا أب له ولا جد ، نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء . وكذلك روى بكر بن محمد ، عن أبيه ، عن أحمد : النفقة على العصبات . وبه قال الأوزاعي ، وإسحاق . وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على بني عم منفوس بنفقته . احتج به أحمد . 
وقال ابن المنذر : روي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء . ولأنها مواساة ومعونة تختص القرابة ، فاختصت بهاالعصبات ، كالعقل . وقال أصحاب الرأي : تجب النفقة على كل ذي رحم محرم ، ولا تجب على غيرهم ; لقول الله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } . وقال مالك ، والشافعي ، وابن المنذر : لا نفقة إلا على المولودين والوالدين ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله : عندي دينار ؟ قال : أنفقه على نفسك . قال : عندي آخر ؟ قال : أنفقه على ولدك . قال : عندي آخر ؟ قال : أنفقه على أهلك . قال : عندي آخر ؟ قال : أنفقه على خادمك . قال : عندي آخر ؟ . قال : أنت أعلم } . ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء ، ولأن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين ، ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها ، فلا يصح قياسه عليهم . ولنا ، قول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } . ثم قال : { وعلى الوارث مثل ذلك } . فأوجب على الأب نفقة الرضاع ، ثم عطف الوارث عليه ، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد . 
وروي { أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أبر ؟ قال : أمك وأباك ، وأختك وأخاك . وفي لفظ : ومولاك الذي هو أدناك ، حقا واجبا ، ورحما موصولا . } رواه أبو داود . وهذا نص ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة ، جعلها حقا واجبا ، وما احتج به أبو حنيفة حجة عليه ، فإن اللفظ عام في كل ذي رحم فيكون حجة عليه في [ ص: 174 ] عداد الرحم المحرم ، وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك في الإنفاق . 
وأما خبر أصحاب الشافعي ، فقضية في عين ، يحتمل أنه لم يكن له غير من أمر بالإنفاق عليه ; ولهذا لم يذكر الوالد والأجداد وأولاد الأولاد . وقولهم : لا يصح القياس . قلنا : إنما أثبتناه بالنص ، ثم إنهم قد ألحقوا أولاد الأولاد بالأولاد ، مع التفاوت ، فبطل ما قالوه . إذا ثبت هذا ، فإنه يختص بالوارث بفرض أو تعصيب ، لعموم الآية ، ولا يتناول ذوي الأرحام ، على ما مضى بيانه ، فإن كان اثنان يرث أحدهما الآخر ولا يرثه الآخر ، كالرجل مع عمته أو ابنة عمه وابنة أخيه ، والمرأة مع ابنة بنتها وابن بنتها ، فالنفقة على الوارث دون الموروث . نص عليه أحمد ، في رواية ابن زياد ، فقال : يلزم الرجل نفقة بنت عمه ، ولا يلزمه نفقة بنت أخته . 
وذكر أصحابنا رواية أخرى لا تجب النفقة على الوارث هاهنا ; لقول أحمد : العمة والخالة لا نفقة لهما . إلا أن القاضي قال : هذه الرواية محمولة على العمة من الأم فإنه لا يرثها ; لكونه ابن أخيها من أمها . وقد ذكر الخرقي ، أن على الرجل نفقة معتقه ; لأنه وارثه . ومعلوم أن المعتق لا يرث معتقه ، ولا تلزمه نفقته . فعلى هذا ، يلزم الرجل نفقة عمته لأبويه أو لأبيه وابنة عمه وابنة أخته كذلك ، ولا يلزمهن نفقته . وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ; لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } . وكل واحد من هؤلاء وارث . 
مسألة : قال : ( فإن كان للصبي أم وجد فعلى الأم ثلث النفقة ، وعلى الجد ثلثا النفقة ) وجملته أنه إذا لم يكن للصبي أب ، فالنفقة على وارثه . فإن كان له وارثان ، فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه ، وإن كانوا ثلاثة أو أكثر ، فالنفقة بينهم على قدر إرثهم منه ; فإذا كان له أم وجد ، فعلى الأم الثلث والباقي على الجد ; لأنهما يرثانه كذلك . وبهذا قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : النفقة كلها على الجد ; لأنه ينفرد بالتعصيب ، فأشبه الأب . وقد ذكرنا رواية أخرى عن أحمد ، أن النفقة على العصبات خاصة . 
ولنا ، قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } والأم وارثة ، فكان عليها بالنص ، ولأنه معنى يستحق بالنسب ، فلم يختص به الجد دون الأم كالوراثة . 
فصل : وإن اجتمع ابن وبنت ، فالنفقة بينهما أثلاثا ، كالميراث . وقال أبو حنيفة : النفقة عليهما سواء ; لأنهما سواء في القرب . وإن كان أم وابن ، فعلى الأم السدس والباقي على الابن . وإن كانت بنت وابن ابن ، فالنفقة بينهما نصفان . وقال أبو حنيفة : النفقة على البنت ; لأنها أقرب . 
وقال الشافعي في هذه المسائل الثلاث : النفقة على الابن ; لأنه العصبة . وإن كانت له أم وبنت ، فالنفقة بينهما أرباعا ; لأنهما يرثانه كذلك . وبه قالأبو حنيفة وقال الشافعي : النفقة على البنت ; لأنها تكون عصبة مع أخيها . وإن كانت له بنت وابن بنت فالنفقة على البنت . وقال أصحاب الشافعي ، في أحد الوجهين : النفقة على ابن البنت ; لأنه ذكر . [ ص: 175 ] ولنا ، قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } . فرتب النفقة على الإرث ، فيجب أن تترتب في المقدار عليه ، وإيجابها على ابن البنت يخالف النص والمعنى ، فإنه ليس بعصبة ولا وارث ، فلا معنى لإيجابها عليه دون البنت الوارثه0
@   مسألة : قال : ( فإن كانت جدة وأخا ، فعلى الجدة سدس النفقة والباقي على الأخ ، وعلى هذا المعنى حساب النفقات ) يعني أن ترتيب النفقات على ترتيب الميراث ، فكما أن للجدة هاهنا سدس الميراث ، فعليها سدس النفقة ، وكما أن الباقي للأخ فكذلك الباقي من النفقة عليه . وعند من لا يرى النفقة على غير عمودي النسب ، يجعل النفقة كلها على الجدة . وهذا أصل قد سبق الكلام فيه . فإن اجتمع بنت وأخت ، أو بنت وأخ ، أو بنت وعصبة ، أو أخت وعصبة ، أو أخت وأم ، أو بنت وبنت ابن ، أو أخت لأبوين وأخت لأب ، أو ثلاث أخوات مفترقات ، فالنفقة بينهم على قدر الميراث في ذلك ، سواء كان في المسألة رد أو عول أو لم يكن . وعلى هذا تحسب ما أتاك من المسائل . وإن اجتمع أم أم وأم أب ، فهما سواء في النفقة ; لاستوائهما في الميراث . 
فصل : فإن اجتمع أبوا أم ، فالنفقة على أم الأم ; لأنها الوارثة . وإن اجتمع أبوا أب ، فعلى أم الأب السدس ، والباقي على الجد . وإن اجتمع جد وأخ ، فهما سواء . وإن اجتمعت أم وأخ وجد ، فالنفقة بينهم أثلاثا . وقال الشافعي النفقة على الجد في هذه المسائل كلها ، إلا المسألة الأولى ، فالنفقة عليهما بالسوية . وقد مضى الكلام على أصل هذا فيما تقدم . 
@  فصل : فإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل ، فالنفقة عليه بقدر ميراثه ، فإن انكشف بعد ذلك حاله ، فبان أنه أنفق أكثر من الواجب عليه ، رجع بالزيادة على شريكه في الإنفاق ، وإن بان أنه أنفق أقل ، رجع عليه ، فلو كان للرجل ابن وولد خنثى ، عليهما نفقته ، فأنفقا عليه ، ثم بان أن الخنثى ابن رجع عليه أخوه بالزيادة ، وإن بان بنتا ، رجعت على أخيها بفضل نفقتها ; لأن من له الفضل أدى ما لا يجب عليه أداؤه ، معتقدا وجوبه ، فإذا تبين خلافه ، رجع بذلك كما لو أدى ما يعتقده دينا فبان خلافه
@  فصل : فإن كان له قرابتان موسران ، وأحدهما محجوب عن ميراثه بفقير ، فقد ذكرنا أنه إن كان المحجوب من عمودي النسب ، فالظاهر أن الحجب لا يسقط النفقة عنه ، وإن كان من غيرهما فلا نفقة عليه . فعلى هذا ، إذا كان له أبوان وجد ، والأب معسر ، كان الأب كالمعدوم ، فيكون على الأم ثلث النفقة ، والباقي على الجد . وإن كان معهم زوجة ، فكذلك . وإن قلنا : لا نفقة على المحجوب . فليس على الأم هاهنا إلا ربع النفقة ، ولا شيء على الجد . 
وإن كان أبوان وأخوان وجد ، والأب معسر ، فلا شيء على الأخوين ; لأنهما محجوبان ، وليسا من عمودي النسب ، [ ص: 176 ] ويكون على الأم الثلث ، والباقي على الجد ، كما لو لم يكن أحد غيرهما . ويحتمل أن لا يجب على الأم إلا السدس ; لأنه لو كان الأب معدوما ، لم ترث إلا السدس . وإن قلنا : إن كل محجوب لا نفقة عليه . فليس على الأم إلا السدس ، ولا شيء على غيرها . وإن لم يكن في المسألة جد ، فالنفقة كلها على الأم . على القول الأول . وعلى الثاني ، ليس عليها إلا السدس . وإن قلنا : إن على المحجوب بالمعسر النفقة ، وإن كان من غير عمودي النسب . فعلى الأم السدس ، والباقي على الجد والأخوين أثلاثا ، كما يرثون إذا كان الأب معدوما . 
وإن كان بعض من عليه النفقة غائبا ، وله مال حاضر ، أنفق الحاكم منه حصته ، وإن لم يوجد له مال حاضر ، فأمكن الحاكم الاقتراض عليه ، اقترض ، فإذا قدم ، فعليه وفاؤه . 
@   
فصل : ومن لم يفضل عن قوته إلا نفقة شخص ، وله امرأة ، فالنفقة لها دون الأقارب ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر : { إذا كان أحدكم فقيرا ، فليبدأ بنفسه ، فإن كان له فضل ، فعلى عياله ، فإن كان له فضل ، فعلى قرابته . } ولأن نفقة القريب مواساة ، ونفقة المرأة تجب على سبيل المعاوضة ، فقدمت على مجرد المواساة ، ولذلك وجبت مع يسارهما وإعسارهما ، ونفقة القريب بخلاف ذلك ، ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته ، فقدمت على نفقة القريب ، كنفقة نفسه ، ثم من بعدها نفقة الرقيق ; لأنها تجب مع اليسار والإعسار ، فقدمت على مجرد المواساة ، ثم من بعد ذلك الأقرب فالأقرب . 
فإن اجتمع أب وجد ، أو وابن وابن ابن ، قدم الأب على الجد ، والابن على ابنه . وقال أصحاب الشافعي ، في أحد الوجهين : يستوي الأب والجد ، والابن وابنه ; لتساويهم في الولادة والتعصيب . ولنا ، أن الأب والابن أقرب وأحق بميراثه ، فكانا أحق ، كالأب مع الأخ . وإن اجتمع ابن وجد ، أو أب وابن ابن ، احتمل وجهين ; أحدهما ، تقديم الابن ; والأب ; لأنهما أقرب ، فإنهما يليانه بغير واسطة ، ولا يسقط إرثهما بحال ، والجد وابن الابن بخلافهما ، ويحتمل التسوية بينهما ; لأنهما سواء في الإرث والتعصيب والولادة . وإن اجتمع جد وابن ابن ، فهما سواء لتساويهما في القرب والإرث والولادة والتعصيب . ويحتمل فيهما ما يحتمل في الأب والابن ، على ما سنذكره . 
@ فصل : وإن اجتمع أب وابن ، فقال القاضي : إن كان الابن صغيرا ، أو مجنونا ، قدم لأن نفقته وجبت بالنص ، مع أنه عاجز عن الكسب ، والأب قد يقدر عليه ، وإن كان الابن كبيرا ، والأب زمن ، فهو أحق ; لأن حرمته آكد ، وحاجته أشد . ويحتمل تقديم الابن ; لأن نفقته وجبت بالنص . وإن كانا صحيحين فقيرين ، ففيهما ثلاثة أوجه ، أحدها ، التسوية بينهما ; لتساويهما في القرب ، وتقابل مرتبتهما . والثاني ، تقديم الابن ; لوجوب نفقته بالنص . والثالث . تقديم الأب ، لتأكد حرمته . 
وإن اجتمع أبوان ، ففيهما الوجوه الثلاثة ; أحدها ، التسوية ; لما ذكرنا . والثاني ، تقديم الأم ; لأنها أحق بالبر ، ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية ، وزيادة الشفقة ، وهي أضعف وأعجز . والثالث ، تقديم الأب ، لفضيلته ، وانفراده بالولاية على ولده ، واستحقاق الأخذ من ماله ، وإضافة النبي صلى الله عليه وسلم الولد وماله إليه بقوله : { أنت ومالك لأبيك . } والأول أولى . وإن اجتمع جد وأخ احتمل التسوية بينهما ; لاستوائهما في [ص: 177 ] استحقاق ميراثه ، والصحيح أن الجد أحق ; لأن له مزية الولادة والأبوة ، ولأن ابن ابنه يرثه ميراث ابن ، ويرث الأخ ميراث أخ ، وميراث الابن آكد فالنفقة الواجبة به تكون آكد . وإن كان مكان الأخ ابن أخ أو عم فالجد أولى بكل حال . 
فصل : والواجب في نفقة القريب قدر الكفاية من الخبز والأدم والكسوة ، بقدر العادة ، على ما ذكرناه في الزوجة لأنها وجبت للحاجة ، فتقدرت بما تندفع به الحاجة ، وقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية . فإن احتاج إلى خادم فعليه إخدامه } ، كما قلنا في الزوجة ; لأن ذلك من تمام كفايته . 

ليست هناك تعليقات: